مقال د.وداد حماد مخلف الفهداوي
تنطلق المقالة من سؤال مفاده كيف تساهم أزمة المناخ في إعادة تشكيل موازين القوى العالمية، وما الأبعاد السياسية والاقتصادية التي تظهر من خلال التفاعل الدولي مع هذه الأزمة؟
تُعد أزمة المناخ من أبرز التحديات التي يواجهها العالم في العصر الحديث، ولم تعد آثارها محصورة في النواحي البيئية والاقتصادية فقط، بل أصبحت عاملاً مؤثراً في إعادة تشكيل موازين القوى على المستوى الدولي. فمع تصاعد الكوارث البيئية، وارتفاع مستويات البحار، وتزايد ندرة الموارد، نشأت منافسة دولية للسيطرة على مصادر الطاقة المتجددة، إلى جانب صراعات متنامية على النفوذ في مناطق استراتيجية متأثرة بالمناخ مثل القطب الشمالي. يستعرض هذا المقال كيف توظف بعض القوى العالمية أزمة المناخ لتعزيز مكانتها الدولية، في الوقت الذي تسعى فيه الدول النامية جاهدة للحصول على الدعم والتمويل اللازمين للتكيف مع هذه التحديات. كما يناقش المقال التحولات التي طرأت على دور المؤسسات الدولية، وأثر الاتفاقيات البيئية العالمية في إعادة رسم السياسات والاقتصادات على نطاق واسع.
حيث يشير الباحثون إلى أن التغير المناخي لم يعد مجرد قضية بيئية، بل أصبح قضية سياسية وأمنية واقتصادية ذات أبعاد استراتيجية تؤثر على التفاعلات بين الدول، حيث بدأت العديد من الحكومات في إدراج التغير المناخي كعنصر أساسي في سياساتها الخارجية وأجنداتها الأمنية. علاوة على ذلك، فإن الأدبيات الحديثة حول الأمن البيئي توضح أن الاحتباس الحراري وارتفاع مستوى سطح البحر وزيادة التصحر تؤثر على توزيع الموارد الحيوية مثل المياه والطاقة، مما يعزز التنافس بين الدول ويؤدي في بعض الحالات إلى صراعات مسلحة ونزوح سكاني واسع النطاق. ومع تزايد تداعيات التغير المناخي على الموارد، والهجرة، والأمن الغذائي، والصراعات، بدأت تتضح ملامح إعادة ترتيب موازين القوى بين الدول. فلم تعد القوة تقتصر على الجوانب العسكرية أو الاقتصادية، بل امتدت لتشمل من يمتلك التكنولوجيا النظيفة، والقدرة على التكيف البيئي، والنفوذ في مؤسسات المناخ الدولية. وبما ان التغير المناخي أصبح كعامل جيوسياسي يمثل عنصرًا محوريًا في رسم السياسات الدولية. لاسيما الدول التي كانت تقود العالم اقتصاديًا بدأت تواجه تحديات داخلية نتيجة الكوارث البيئية، فيما صعدت دول أخرى بفضل استثماراتها في الطاقة المتجددة وتقنيات التكيّف المناخي. على سبيل المثال، تستثمر الصين بشكل كبير في الطاقة الشمسية والرياح، مما يمنحها نفوذًا اقتصاديًا واستراتيجيًا في سوق الطاقة المستقبلية، في حين تسعى دول مثل روسيا لتعزيز نفوذها في المناطق القطبية التي أصبحت أكثر قابلية للاستغلال مع ذوبان الجليد. ومع تصاعد مخاطر التغير المناخي، ظهر مفهوم "الأمن المناخي" كمكون أساسي من الأمن القومي. أدرجت العديد من الدول الغربية، خصوصًا في أوروبا والولايات المتحدة، التغير المناخي ضمن استراتيجياتها الدفاعية، معتبرة أن الأزمات المناخية قد تفضي إلى نزاعات إقليمية، وهجرات جماعية، واضطرابات اقتصادية. في هذا السياق، تتشكل تحالفات جديدة ليس فقط لمكافحة الانبعاثات، بل للسيطرة على أدوات الاستجابة السريعة، مثل المساعدات الطارئة، والتمويل المناخي، وتكنولوجيا التكيّف. وهنا تظهر الفجوة بين الشمال والجنوب العالمي بين الدول المتقدمة والدول النامية. ففي حين تملك الدول الصناعية الوسائل اللازمة للتعامل مع التغير المناخي، تعاني الدول الفقيرة من هشاشة البنية التحتية، وقلة الموارد، وغياب التمويل الكافي. رغم وعود الدول الكبرى بتقديم "تمويل مناخي" للدول النامية، فإن الكثير من هذه التعهدات لم يتحقق على الأرض، مما يزيد من انعدام الثقة ويؤثر في التوازنات السياسية في المحافل الدولية مثل قمم المناخ (COP).
حيث بدأت بعض الدول الصغيرة أو المتوسطة، مثل النرويج، وكوستاريكا، تلعب دورًا أكبر من حجمها الجغرافي والاقتصادي من خلال ما يُعرف بـ"الدبلوماسية المناخية". هذه الدول تبني سمعتها الدولية على أساس التزامها البيئي، وتطرح نفسها كقادة أخلاقيين في مجال المناخ، مما يمنحها ثقلاً سياسيًا في المفاوضات الدولية قد يفوق وزنها التقليدي. وتعد الحوكمة البيئية العالمية إطارًا تنظيميًا يهدف إلى تنسيق الجهود الدولية لحماية البيئة ومواجهة التحديات البيئية العالمية، وعلى رأسها التغير المناخي. مع تزايد التأثيرات السلبية للتغير المناخي، أصبح التعاون الدولي ضروريًا لضمان استدامة الموارد الطبيعية والتخفيف من الانبعاثات الكربونية. وتشير الحوكمة البيئية العالمية إلى مجموعة القوانين والسياسات والاتفاقيات الدولية التي تنظم العلاقة بين الدول والمؤسسات في ما يخص القضايا البيئية، مثل الاحتباس الحراري، إزالة الغابات، فقدان التنوع البيولوجي، والتلوث. ويمكن توضيح ابرز الحلول لإدارة أزمات التغير المناخي هي :
1. التحول العادل نحو الطاقة المتجددة
يجب على الدول الكبرى تقليل اعتمادها على الوقود الأحفوري والانتقال إلى مصادر طاقة متجددة (الشمس، الرياح، الهيدروجين الأخضر).ويتطلب هذا التحول استثمارًا في البنية التحتية وتكنولوجيا التخزين والتوزيع، مع ضمان عدم تهميش المجتمعات التي تعتمد على الصناعات التقليدية.
2. تعزيز التمويل المناخي للدول النامية
لا يمكن تحقيق عدالة مناخية دون توفير دعم مالي وتقني للدول الفقيرة التي تعاني من تبعات التغير المناخي دون أن تكون مسؤولة عنه.ينبغي على الدول المتقدمة الالتزام بتعهداتها في صندوق المناخ الأخضر، وتحقيق الشفافية في تسليم المساعدات.
3. تطوير الدبلوماسية المناخية متعددة الأطراف
دعم اتفاقيات دولية قوية، مثل اتفاق باريس واتفاق كيوتو، والعمل على تعزيز تنفيذها عبر آليات مراقبة وتحفيز.يجب أن تكون القرارات المناخية منصفة وتشاركية، بحيث تشمل الدول النامية وصوت المجتمع المدني.
4. الاستثمار في البحث والابتكار البيئي
تمويل الابتكار في التقنيات الخضراء، الزراعة المستدامة، وتحلية المياه. التعاون بين الجامعات، الشركات، والحكومات لإيجاد حلول تقنية لتقليل الانبعاثات وتكيّف المجتمعات مع التغيرات المناخية.
5. إعادة تعريف الأمن القومي ليشمل الأمن المناخي
إدماج تقييمات المناخ ضمن الخطط الاستراتيجية للدفاع والأمن، بما يشمل إدارة الكوارث والتخطيط للهجرات المناخية. التعاون الإقليمي والدولي لتفادي النزاعات الناتجة عن الموارد أو الكوارث المناخية.
لقد غيّرت أزمة المناخ مفاهيم القوة والنفوذ في العالم المعاصر. فأصبح امتلاك حلول للتغير المناخي وتكنولوجيا نظيفة جزءًا لا يتجزأ من السيادة الوطنية والتأثير العالمي. ومع استمرار تفاقم الأزمة، ستواصل موازين القوى العالمية إعادة تشكيل نفسها بناءً على من يملك القدرة على التكيف، ومن يستطيع أن يقود الجهود الدولية نحو مستقبل أكثر استدامة وعدالة.