مقال بعنوان (استراتيجية التحول الرقمي في التعليم العالي: نحو بيئة جامعية ريادية تقود التغيير المستدام)

مقال بعنوان (استراتيجية التحول الرقمي في التعليم العالي: نحو بيئة جامعية ريادية تقود التغيير المستدام)
Share |
2025-09-02
مقال بعنوان (استراتيجية التحول الرقمي في التعليم العالي: نحو بيئة جامعية ريادية تقود التغيير المستدام)

مقالة أ.م.د. وداد حماد مخلف الفهداوي جامعة الانبار – كلية التربية للبنات

في العقود الأخيرة، شهد العالم موجة متسارعة من التغييرات التكنولوجية والرقمية التي لم تترك قطاعًا إلا وتركَت فيه أثرًا واضحًا، ويُعد قطاع التعليم العالي من أبرز القطاعات التي تأثرت بهذه الموجة، سواء على صعيد العمليات الإدارية أو نماذج التعليم والتعلم. لقد بات التحول الرقمي خيارًا استراتيجيًا وليس ترفًا تقنيًا، تفرضه التحديات العالمية المتسارعة وسوق العمل المتغير، ومتطلبات التنمية المستدامة التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من رسالة الجامعات الحديثة. (Garcez, Silva, & Franco, 2021). ويُشير مفهوم التحول الرقمي في السياق الجامعي إلى إعادة هيكلة شاملة لبيئة التعليم والإدارة والبحث، بالاعتماد على تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، الحوسبة السحابية، البيانات الضخمة، والتعلم الآلي، بهدف تحسين الكفاءة، وتعزيز جودة المخرجات التعليمية، وتحقيق الريادة الأكاديمية داخل وخارج الحرم الجامعي. ومع تسارع هذا التحول، لم يعد السؤال المطروح هو: هل ستتحول الجامعات رقميًا؟ بل كيف ومتى وبأي جودة واستدامة؟

 

من هنا، تنبع أهمية هذه المقالة  في كونه لا يكتفي باستعراض جوانب التحول الرقمي، بل يسعى لتحليل العلاقة بين هذا التحول وريادة الأعمال الأكاديمية، باعتبارها أحد المخرجات الحيوية للجامعات الحديثة. فهل تسير الجامعات بالفعل نحو ريادة أكاديمية حقيقية تقود التغيير؟ أم أن ما نشهده هو مجرد مواكبة شكلية للتكنولوجيا دون تأثير فعلي على الفكر المؤسسي أو الإبداع الأكاديمي؟

ففي خضم التحولات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة التي يشهدها العالم، أصبحت الريادة مفهومًا محوريًا يتجاوز حدود المشاريع الربحية إلى أن يصبح نمطًا في التفكير، والعمل، والإبداع المؤسسي. وفي هذا السياق، ظهرت الريادة الأكاديمية كمجال استراتيجي يرتبط بقدرة الجامعات على توظيف المعرفة والبحث العلمي لإنتاج حلول مبتكرة تستجيب لحاجات المجتمع وسوق العمل. اذ لم تعد الجامعات تُقاس بجودة التعليم فقط، بل أصبحت مطالبة بلعب دور ريادي في بناء اقتصاد المعرفة، ودعم التنمية المستدامة، وتعزيز الابتكار المجتمعي. هذا التحول في الدور يتطلب بيئة أكاديمية مرنة، داعمة للتجريب، ومرتكزة على الشراكة مع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يتقاطع مع مفاهيم التحول الرقمي والريادة المؤسسية.

وتعرف ريادة الأعمال الأكاديمية بأنها قدرة مؤسسات التعليم العالي على توظيف مخرجاتها العلمية والتقنية في إنتاج ابتكارات ذات أثر اقتصادي أو اجتماعي ملموس. ويتجلّى ذلك في إنشاء الشركات الناشئة الجامعية، نقل التكنولوجيا إلى الأسواق، إقامة الشراكات الصناعية، والمساهمة في صياغة سياسات التنمية (Ashmel, Hashim, & Tlemsani, 2021). هذا المفهوم يعيد تشكيل الجامعة كمؤسسة ريادية فاعلة في الاقتصاد المعرفي.. وتظهر هذه الريادة في:

1-    تأسيس شركات ناشئة من مشاريع بحثية.

2-    تطوير براءات اختراع وتراخيص تكنولوجية.

3-    الشراكات مع القطاعين العام والخاص.

4-    المساهمة في السياسات العامة من خلال الدراسات التطبيقية.

وتعد هذه الأنشطة جزءًا من تحول الجامعات من مجرد مؤسسات تعليمية إلى مؤسسات منتجة للمعرفة ومحفزة للابتكارات توسع دور الجامعة في السنوات الأخيرة ليشمل جوانب تطبيقية تتجاوز الجدران الأكاديمية التقليدية. فوفق نموذج الشفرة الثلاثية (Triple Helix)، تلعب الجامعة دورًا تكامليًا مع كل من الحكومة والصناعة لبناء مجتمع معرفي مبتكر (Etzkowitz & Leydesdorff, 2000). هذا النموذج لا يُنظر فيه إلى الجامعة كمزوّد للموارد البشرية فحسب، بل كجهة مؤثرة في دفع عجلة الاقتصاد المحلي والوطني من خلال البحث والتطوير، وريادة الأعمال، ومشاريع التنمية المجتمعية.

أولا: التحوّل الرقمي كرافعة للريادة الأكاديمية

يُشير التحول الرقمي في السياق الجامعي إلى استخدام الأدوات والتقنيات الرقمية لتحسين جودة التعليم، وتسهيل الخدمات الأكاديمية، وتحقيق تكامل بين التدريس، البحث، والإدارة. كما يهدف إلى خلق بيئة ذكية تعزز الإبداع، وتمكّن الجامعات من أداء أدوارها الريادية بشكل أكثر فاعلية (Garcez, Silva, & Franco, 2021).ويرى العديد من الباحثين أن التحول الرقمي لا يمكن اختزاله في تطبيق الأدوات التقنية فقط، بل يجب أن يُواكب بتغيّر ثقافي في نماذج العمل، وأساليب التعلّم، وبُنى الحوكمة الأكاديمية (Chounta et al., 2024).

ثانيا : العلاقة بين التحول الرقمي وريادة الأعمال الأكاديمية

تدعم البيئة الرقمية ممارسات الريادة الأكاديمية من خلال:

1-    تسريع وتيرة الابتكار: عبر استخدام البيانات الذكية في تحليل الاتجاهات البحثية، واكتشاف فرص التطوير.

2-    نشر المعرفة بمرونة: من خلال المنصات التعليمية المفتوحة، والمقررات الرقمية، والتعلّم التفاعلي.

3-    دعم المشاريع الريادية الطلابية: من خلال الحاضنات الافتراضية، وأنظمة الدعم التقني، والتدريب الرقمي.

أن هذا التحول يُعزز الركائز المؤسسية للريادة الأكاديمية عبر تحسين الحوكمة، وتوسيع الوصول، وخلق فرص ريادة من داخل الحرم الجامعي. Garcez وآخرون (2021)

ويمكن ذكر اهم  النماذج العالمية في التحول الرقمي الجامعي منها :

1-    جامعة أديلايد الأسترالية: تبنّت منهجًا متكاملاً للتحوّل الرقمي يرتكز على الذكاء الاصطناعي، التعلّم الهجين، وتعزيز المهارات الرقمية للطلبة كجزء من رؤية 2026 للتميّز العالمي (The Australian, 2024).

2-    جامعة أوسلو النرويجية: طوّرت نموذج "الرقمنة المزدوجة" (Dual Digitalisation)، الذي يدمج بين تطوير المحتوى الرقمي وتغيير ثقافة التدريس، بهدف تحويل التعلم الجامعي إلى تجربة رقمية بالكامل (Øvrelid, 2023).

3-    جامعة الملك سعود: في المملكة العربية السعودية، أطلقت مشاريع رقمية رائدة في الربط بين البحث التطبيقي والابتكار الصناعي، ما يبرهن على إمكانات البيئة الرقمية في دعم الريادة الوطنية.

 

 

ثالثا: - التحول الرقمي في تطوير التعليم والبحث وخدمة المجتمع – الواقع العراقي أنموذجًا

تُعد الجامعات محورية في بناء مجتمع المعرفة وإعادة بناء الدولة بعد عقود من الاضطرابات، إلا أن التحول الرقمي في الجامعات العراقية ما زال يواجه تحديات بنيوية وتنظيمية، رغم بعض الجهود الوطنية المبذولة في السنوات الأخيرة. وأحد أبرز مخرجات التحول الرقمي هو قدرة الجامعة على التفاعل المجتمعي الفوري، من خلال:

1-    إطلاق منصات توعوية إلكترونية

2-     تقديم استشارات مجتمعية رقمية

3-    دعم المشاريع الناشئة عبر الحاضنات الافتراضية

 تبقى مساهمة الجامعات  العراقية في خدمة المجتمع عبر الوسائط الرقمية محدودة، بسبب غياب الدعم اللوجستي، وضعف ثقافة العمل المجتمعي الإلكتروني. برغم الجهود الوطنية لتحديث منظومة التعليم العالي، إلا أن الجامعات العراقية تُواجه تحديات عدّة في التحول الرقمي، يمكن تلخيصها بالاتي :

1. ضعف البنية التحتية التقنية

في دراسة تناولت “التحول الرقمي والإدارة المستدامة في الجامعات العراقية”، أكّدت الباحثة نغم نعمة (2024) أن إحدى التحديات الرئيسة تكمن في ضعف البنية التحتية داخل الجامعات، وعدم الجاهزية التقنية اللازمة لتطبيق أدوات التعليم الرقمي (نغـم نعمة، 2024).

كما يشير تقرير مؤشرات الجاهزية الرقمية في العراق إلى أن معدل انتشار التكنولوجيا الرقمية نحو 32% فقط، مما يوضّح بطء تطوّر البيئة التقنية في سوق العمل، وما يرتبط بها من مؤسسات تعليمية (infoiq، 2021).

2. افتقار الكفاءات والمهارات الرقمية

تفتقر بيئة الجامعات العراقية لعدد كافٍ من الكوادر المؤهلة في مجال تكنولوجيا المعلومات والتعليم الإلكتروني. فقد بيّنت الدراسات أن العديد من التدريسيين والإداريين لم يتلقوا تدريبًا فعليًا على المهارات الرقمية، ما شكّل عقبة أمام التحول الفعلي إلى البيئة الرقمية (infoiq، 2021).

3. ضعف اعتماد التعليم الإلكتروني

أبرزت دراسات محلية أن التعليم الإلكتروني لا يزال في مراحل أولية، ولم يأخذ طابع التكامل المؤسسي. فعلى سبيل المثال، مع كون جامعة الكوفة من أوائل من استخدم نظام Moodle في العراق، فإن الاستخدام ما زال محدودًا في عدد قليل من الكليات، وتفتقر معظم الجامعات إلى اعتماد أنظمة تعليم إلكتروني فعلية ومنظمة (Al-Azawei et al., 2016).

4. التحديات الأمنية والبيروقراطية

تمثل التحديات الأمنية والبيروقراطية عقبات أمام تطبيق التكنولوجيا الرقمية. يشير أحد المصادر إلى أن ضعف الاستقرار السياسي، ووجود هجمات سيبرانية ومخاوف متعلقة بخصوصية البيانات، تشكل عوائق أمام الجهود الرقمية في المؤسسات التعليمية، بما في ذلك الجامعات (kerbalacss، 2023).

هذه التحديات تحتاج إلى تدخل استراتيجي عاجل يربط بين الرؤية الوطنية للتعليم، والاحتياجات التقنية للمجتمع الأكاديمي.

رابعا: فرص التحول الرقمي على مستوى الجامعات العراقية :

1-    ضرورة اعتماد استراتيجية وطنية للتحول الرقمي الجامعي، تتضمن أهدافًا واضحة، ومؤشرات أداء، وآليات تنفيذ قابلة للقياس.

2-    دعم مؤسسات دولية للتحول الرقمي  مثل اليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) منحًا ومبادرات لدعم التحول الرقمي في العراق، وهو ما يمكن أن تستفيد منه الجامعات لبناء منصات إلكترونية، وتدريب كوادرها، وتحسين البنية التحتية الرقمية.

3-    تخصيص موازنات رقمية مستقلة داخل الجامعات، لدعم البنية التحتية التكنولوجية، وتوفير البرامج المرخّصة.

4-    ضرورة أن تُطوّر وزارة التعليم العالي استراتيجية شاملة ومتكاملة تربط بين التحول الرقمي وريادة الأعمال الأكاديمية، وتشمل مؤشرات أداء، خارطة طريق زمنية، وتمويل مستدام.

5-    دمج ثقافة الريادة الرقمية في المناهج الجامعية وإدخال مقررات دراسية عن ريادة الأعمال، الابتكار، والتحول الرقمي ضمن الخطط الدراسية لجميع التخصصات. الى جانب اعتماد التعليم بالمشاريع (Project-based learning)، حيث تُوجّه أعمال الطلبة نحو حلول مجتمعية وتقنية فعلية.

6-     يجب أن لا تكون الرقمنة إدارية فقط (أرشفة، درجات، حضور)، بل مُوجهة نحو الابتكار الأكاديمي، دعم المشاريع الطلابية، وتطوير بيئة معرفية ريادية.

7-    إنشاء نظام وطني موحّد لإدارة التعليم الإلكتروني والابتكار الجامعي، مع ربطه بالبحث العلمي وخدمة المجتمع.

8-    توفير إنترنت مدعوم للطلبة من خلال الجامعات، وتوسيع نطاق الشبكة الجامعية الوطنية (NREN).

9-    تدريب أعضاء هيئة التدريس والإداريين بشكل مستمر على الأدوات والمنصات الرقمية، لضمان جاهزيتهم في تقديم تعليم وتقييم رقمي فعال.

10-                       تفعيل وحدات التحول الرقمي أو مراكز الابتكار التعليمي داخل كل جامعة، لتكون مسؤولة عن تنفيذ ومتابعة خطط الرقمنة.

11-                       إطلاق حاضنات أعمال رقمية داخل الحرم الجامعي، لدعم المشاريع الريادية الطلابية وربطها بسوق العمل.

12-                       إشراك الطلبة في تصميم المحتوى الرقمي والمقررات التفاعلية، لإكسابهم المهارات الرقمية وريادة الذات.

13-                       تشجيع البحث التطبيقي الرقمي الذي يعالج قضايا مجتمعية حقيقية باستخدام أدوات تكنولوجية متقدمة.

14-                       تعزيز ثقافة التقييم المستمر لمشاريع التحول الرقمي، وتصحيح المسار بناءً على التغذية الراجعة من الميدان.

ختاما يمثل التحول الرقمي فرصة استراتيجية لإعادة تعريف دور الجامعة كمؤسسة ريادية قادرة على قيادة التغيير، لا سيما إذا تم تفعيله ضمن رؤية متكاملة تشمل التكنولوجيا، والثقافة المؤسسية، وريادة الأعمال. إن مستقبل الريادة الأكاديمية مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمدى نضج البيئة الرقمية داخل مؤسسات التعليم العالي، وهو ما يتطلب استثمارات طويلة الأجل وتحديثات مستمرة في السياسات، والبنى التحتية، والمهارات.

 

 

 
عدد المشاهدات : 263